يظلّ المولد النبوي الشريف من أعظم المحطات في تاريخ الأمة الإسلامية، فهو ميلاد الرحمة المهداة، والحدث الذي أشرق فيه النور على العالم فأخرج البشرية من الظلمات إلى النور. هذه الذكرى ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي معنى روحي عميق يربط الأمة بجذورها ويمنحها طاقة تجديد قيمية وأخلاقية في كل عصر.

لكن، ورغم قدسية المناسبة، صارت طريقة الاحتفال بها محل جدل واسع بين من يراها وسيلة للتعبير عن الحب لرسول الله ﷺ، وبين من يراها مناسبة تُفرّغ أحيانًا من معناها وتتحول إلى مظاهر شكلية أو حتى مأساوية.

أولاً: الإشكاليات الراهنة في الاحتفاء بالمولد

1. التمييع وفقدان الجوهر

كثير من الاحتفالات تنزلق إلى التميع الفني أو المبالغة في المظاهر الفلكلورية التي لا تراعي روح المناسبة. نجد الحفلات تتحول إلى مهرجانات تجارية، يغيب عنها الطابع الديني وتُفرغ من قيمتها الروحية.

2. الألعاب النارية والمخاطر

تحوّل المولد عند البعض إلى مناسبة لإشعال الألعاب النارية، وهو ما يشكل خطرًا مباشرًا على الأطفال ويؤدي أحيانًا إلى إصابات وحوادث مأساوية. بدل أن يكون المولد فرصة للفرح الإيماني، يصبح مصدر خوف ودموع للأسر.

3. العولمة والحداثة المزيّفة

في ظل العولمة، تفرض الثقافة الاستهلاكية نفسها على المجتمعات، فتغدو حتى المناسبات الدينية سلعة تجارية تُستهلك عبر الأسواق والمهرجانات الشكلية، بدل أن تكون منابر للتزكية والتربية الروحية.

4. غياب الوعي الجمعي

جزء من المشكلة يكمن في غياب الوعي الحقيقي بمعنى المولد. كثيرون يحتفلون بالمناسبة دون معرفة برسالة النبي ﷺ أو سيرته، فيتحول الاحتفال إلى عادة مفرغة من المعرفة.

 ثانيًا: الاختلافات في الموقف من الاحتفال

  • هناك من يعارض أصل الاحتفال، بدعوى أنه لم يكن في زمن السلف الأول.
  • وهناك من يؤيده مطلقًا، معتبرًا أنه وسيلة لإظهار الحب للنبي ﷺ.
  • وهناك اتجاه ثالث (وهو الأهم) يرى أن:
    • الاحتفال مشروع بالمعنى، لأنه تجديد للعهد مع رسول الله ﷺ.
    • لكن الإشكال في الطريقة: إن كان الاحتفال ملتزمًا يذكّر الناس بسيرة النبي ﷺ فهو محمود، وإن كان تمييعًا وضررًا فهو مرفوض.

 ثالثًا: حلول عملية لتصحيح مسار الاحتفالات

✅ 1. إعادة البوصلة إلى السيرة النبوية

  • جعل الاحتفالات منصات للتعريف بسيرة النبي ﷺ وقيمه.
  • إقامة محاضرات ومسابقات معرفية: من يعرف سيرة الحبيب؟.

✅ 2. تطوير أشكال عصرية ملتزمة

  • تنظيم مسابقات التجويد والإنشاد الديني.
  • إدخال مسابقات حديثة مثل "المكروفون الذهبي" لتشجيع الشباب على الإلقاء . والتعليق الصوتي وتركيب الفيديوهات لنشر محتوى هادف على منصات التواصل.

✅ 3. ضبط الجانب الاحتفالي

  • تعويض الألعاب النارية والطقوس الخطرة ببرامج آمنة للأطفال (ورش رسم، عروض مسرحية تربوية).
  • استغلال التقنيات الحديثة (إضاءة، عروض بصرية، وسائط تفاعلية) في إطار محترم يليق بالمناسبة.

✅ 4. تعزيز الوعي المجتمعي

  • إشراك الجمعيات الدينية والثقافية في صياغة برامج المولد.
  • جعل المدارس والمساجد منصات لشرح معنى المولد بعيدًا عن التكرار والسطحية.

رابعًا: المولد في زمن التحديات

في عالم اليوم، حيث تتلاطم أمواج العولمة وتُسوّق الحداثة المزيّفة نماذج حياة منفصلة عن الروح، يصبح من الضروري أن نتمسك بمناسباتنا الدينية كهوية جامعة.
المولد النبوي ليس مجرد طقس شعائري، بل هو فرصة لمراجعة ذواتنا وتجديد العهد مع قيم الرحمة والعدالة التي جاء بها النبي ﷺ.

✍️ تجربة شخصية في الجامعة

لا أنسى ما جرى لي شخصيًا عندما كنت طالبًا في طور الليسانس بقسم الفنون التشكيلية بجامعة أبي بكر بلقايد – تلمسان. كان المولد النبوي الشريف على الأبواب، وخلال إحدى محاضرات الأستاذ الدكتور عبد الغني زعفان – الأستاذ الخلوق المحترم – في قاعة كلية الآداب قسم الفنون، وقع حادث صبياني من أحد الطلبة الذي رمى ألعابًا نارية صغيرة داخل الفناء، مما أحدث فوضى وقطع مجرى الدرس.

هذا التصرف أثار جدلاً بين الطلبة:
طالبة (ش.م) قالت: "هذا ليس احتفالًا ولا من أصولنا، بل أصلاً لا ينبغي الاحتفال بالمولد"، وأبدت اعتراضها على أصل المناسبة.
بينما ردّ أحد الزملاء (لا اذكر اسمه) قائلاً: "بل يجب أن نحتفل بالإنشاد الديني"، لكنه لم يكن يعلم ولا اي احد في القاعة أنني حينها كنت رئيس فرقة الأنوار للمديح والإنشاد.

الطالبة (ش.م) استهزأت قائلة: "وما هذه الأناشيد؟ جماعة طلع البدر علينا؟" بنبرة ساخرة. 
وهنا شعرت أن عليّ أن أتدخل.

فقلت أمام الجميع: "لو لم تكن هناك احتفالات – رغم ما قد يرافقها من سلوكيات صبيانية – لما تذكرنا أن المولد النبوي اقترب. واجبنا نحن كشباب واعٍ، كطلبة اليوم ودكاترة الغد، أن نُعرّف الأجيال بمعنى هذه المناسبة. وأن نُخرجها من مظاهر التمييع والمخاطر، لنربطها بالغاية الحقيقية: التعريف بمولد خير البرية."

ثم اضفت : "الإنشاد ليس محصورًا في النشيد الرائع  'طلع البدر علينا'، بل هو فن أصيل قادر على مواكبة العصر بروح ملتزمة. وأنا منشد في فرقة الأنوار، شاب مثلكم، لست متخلفًا ولا رجعيًا كما تتصورون، وإنما أحمل رسالة نبيلة بالفن الملتزم."

ابتسم الأستاذ د. زعفان عندها، وقال لي: "هذا بالضبط ما كنت أريد أن أجيب به… وأتشرف بمعرفتك وبما تقدمونه."
كلماته وابتسامته بقيت محفورة في ذاكرتي، أستحضرها كلما اقترب المولد النبوي الشريف.
ان مغزى القصة ان هذه الحادثة تعكس بوضوح أن الخلاف ليس في أصل الاحتفال، وإنما في الوعي بكيفية الاحتفال. إذا غاب الوعي تحوّل المولد إلى ألعاب نارية صاخبة أو جدالات سطحية، وإذا حضر الوعي صار مناسبة تربوية فنية راقية، تُعرف الأجيال بسيرة النبي ﷺ وتُبقي نوره خالدًا في القلوب.

في ختام هذا المقال 
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف حقّ مشروع وفرحة إيمانية مطلوبة، لكن شريطة أن يُحافظ على جوهر المناسبة، بعيدًا عن التمييع والمخاطر، ومواكبًا للعصر بروح ملتزمة.

وها نحن اليوم، بعد مرور 1500 سنة على ميلاد خير البرية ﷺ، ما زال نوره خالدًا في القلوب، وما زال حضوره بيننا حيًّا برسالته، وسيرته، وقيمه التي تتحدى كل مظاهر العولمة الزائفة والحداثة المزيّفة. فكأن رسول الله ﷺ يعيش بيننا بسنّته ورسالته، يذكّرنا أن ميلاده ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل حياة متجددة تمدّ الأمة بالرحمة والعدل والنور إلى يوم الدين.

بقلم صاحب المقال
صورة الكاتب

ساهل سمير

ماستر فنون تشكيلية | جمعية الأنوار – تلمسان

مهتم بالتراث الروحي والثقافة الفنية، يكتب عن مبادرات جمعية الأنوار وفرقة الأنوار للمديح والإنشاد، ويساهم في إبراز النشاط الثقافي والخيري محليًا ووطنياً.

Post a Comment

مرحبًا! نرحّب بتعليقاتكم واستفساراتكم.
للحجوزات نرجو استخدام صفحة «اتصل بنا» أو البريد: contact@elanwar.com.
يتم نشر التعليقات بعد المراجعة. شكرًا لحسن تواصلكم.

أحدث أقدم